من ذكرياتي مع الشيخ راشد الصليح رحمه الله

من ذكرياتي مع الشيخ راشد الصليح رحمه الله تمر بالمرء أيام تنهمر فيها الدموع حرى ويعتصر القلب ألما وحزنا، فتثير حوادث الدنيا في نفسك أيها الإنسان الضعيف كثيرا من التحسر والخوف من المستقبل، فلا يجد الإنسان مهربا ولا مندوحة غير الركون إلى الليل الحزين واستنشاق الأكسجين والإنصات إلى لحن الوجود الذي يسبح بحمد الله وقدسه، - فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه- ذلك هو البلسم النافع حين يجد المرء من وقع المصيبة ما يمنعه حتى من الإجهاش بالبكاء، فيمتزج فيه الألم بالعجز عن المقاومة، وتلك هي الحال والله وكما وصفها الشاعر الحزين بقوله: وعجبت من دمع يجود وخلفه *** كبد تذوب وزفرة تتوالى أو كما وصفها ابن الرومي: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي *** فجودا فقد أودا نظيركما عندي ذلك حين يفتقد المرء أعز هدية يستلمها في حياته، وأغلى كنز يدخره لما بعد مماته، ألا وهو الصديق الصدوق، والأخ الصالح الناصح، والكريم العاقل المتأني، والداعية الخلص الموفق، كل ذلك يرحل فجأة ودفعة واحدة في شخص الشيخ راشد صالح الصليح رحمه الله برحمته الواسعة. ألا أيها الدمع الرقراق جُـدْ ثم جُـدْ، فلن تكون أجـــوَدَ ولا أغزر ولا أندى من أبي صالح. ورغم صعوبة الوداع وعظمة الرحيل فإنه من باب الجزاء الذي يساعد في تضميد الجراح المثخنة أن نكتب كلمة وفاء عن هذا الشيخ الوفي. أبو صالح راشد ... هو فعلا أبو الصلاح والرشد والاستقامة ، وذلك يجعل هذه الكلمات من سيرته وسريرته ما هي إلا قطوف من ثمار وقطرات من بحار، فعذرا أيها الراحل الكريم، والمودع المسافر على هذه الكلمات النزر الخجولة في حقك أيها الموقر. الشيخ راشد الصليح الذي رحل عن دنيانا اليوم عرفته منذ خمسة عشر عاما متهلل الوجه، طلق المحيا، صادق الوعد، مبسوط الكف، رقيق المشاعر ، مرهف الحس، عفيف اللسان ، رحب الجنان ، قويا في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم . إن الحديث عن الشيخ راشد الصليح حديث ذو شجون وأبعاده متعددة ومجالاته متنوعة، لذلك فهو حري أن يؤلف فيه كتاب مستقل ، وكنت أحب أن يتولى هو بنفسه رحمه الله تعالى هذه المهمة ، حيث كان مرة يحدثني عن رحلة قام بها إلى تركيا ضمن رحلاته الدعوية الكثيرة في العالم الإسلامي، فلما انتهى من حديثه ورأيت أن فيه من الدروس والعبر ما يستحق التدوين والكتابة، عندها اقترحت عليه كتابة مذكرات في مسيرته ومشواره العلمي والدعوي فرد -رحمه الله- بتواضعه المعهود: (المهم هو العمل ونسأل الله القبول والإخلاص)، وهي كلمة طالما رددها وأوصى بها طلابه وزملاءه. أول ما يطالعك في الرجل حين تلقاه لأول وهلة: أدبه الرفيع، وتواضعه الجم، ونكتته الحاضرة، تلقاه فيسألك (كيف حال المسلمين) ؟ وهو سؤال من السهل الممتنع يعني الكثير بالنسبة للشيخ راشد رحمه الله، فهو الذي عاش مهموما بقضايا الأمة وسخر مهجته وماله وشبابه من أجل ردها إلى رشدها من خلال الدعوة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها، مما جعلها قضيته الكبرى التي تسكن كيانه ووجدانه فلا تغادرهما بحال، إنها القضية التي جعل منها ألغازا ولوازم وإشارات في كلماته وأسئلته، العفوية العارضة فحين يعرض عليك أن تصحبه في سفر ما يومئ إليك في أدبه ولطافته المعهودة قائلا: "ألا تسافر مع المسلمين"؟ وكذلك حين يدعوك إلى بيته الكريم "ألا تتناول الغداء مع المسلمين" ؟ ألا تجلس مع المسلمين ؟ ألا تزورون المسلمين؟ وهلم جرا ... أسلوب يوحي إليك أن الرجل قد اختط للإسلام والمسلمين المساحة الرحبة من قلبه وشعوره ووجدانه. أما تواضع الرجل فحدث عنه ولا حرج، فتراه -وهو الأستاذ والداعية والمفكر والمثقف- يداعب الكبير ، ويمازح الصديق، ويلاطف الصغير، كل ذلك بأدب ووقار وحكمة تفوق التعبير وتربو على التصوير، فلا تراه مفحشا ولا متشنجا ولا ضائقا ذرعا بمخالف، وكان كثيرا يقول لي :"أنا لا أخشى على الدعوة إلى الله تعالى من شيء كخشيتي عليها من اختلاف العاملين فيها". أما يده المبسوطة الباحثة عن الأيتام والأرامل والمساكين والمعوزين فهي كما يقول الشاعر: يـــــــد لا تني تهمي ينابيع جودها *** فما بالها لا تشتكي البرد والندى ولو نضبت منها العيون لما اشتكت*** ولم يشف منها وارد غلة الصدى ولكنها في لجة الجود أنقعت *** فصارت من الأيمان أندى وأجودا بينما أنا ذات مرة في رحلة تحت حرارة الشمس في أدغال أفريقيا إذا أنا "ببرادة" بيضاء كبيرة الحجم على بوابة حائط واسع يفضي إلى مسجد كبير في ساحة شاسعة يرتاده المئات من المصلين، المارة والمصلون ورواد المسجد وسكان المنطقة يشربون من البرادة ويتوضئون ليل نهار، وقفت أنا وزملائي كسائر الناس ننتظر دورنا -وقد حضر وقت الصلاة- وبنظرة عابرة إلى جانب البرادة إذا بها مكتوب عليها بخط أخضر عريض"أبو صالح" وأمامه رقمه الذي آخره 950 ، عندها عرفت الاسم والرقم ودعوت الله له، صلينا ورجعنا وقابلنا شيخ الحي وهو شيخ مسن أتذكر أن اسمه سليمان فسألته هل تعرف الشيخ راشد الصليح فأجابني كالمستغرب بقوله:" جدا، وكلنا نعرفه... ومن لا يعرف راشد " عندها عرفت أنها حسنة من ملايين حسناته في العالم الإسلامي. لئن رحل الشيخ راشد وانتقل إلى الرفيق الأعلى فقد قدم من روحه الزكية وبدنه المربوع وهمته الشامخة وإيمانه الراسخ أنموذجا يحتذى ونبراسا يقتدى، كان رحمه الله تعالى معتبرا في الماضي، قارئا للمستقبل، عازفا في الدنيا، متفكرا في الآخرة، مازجا بين الحكمة والشعور بالفناء، لقد حل مكانة في قلوب الناس لا يصلها إلا نوادر الفضلاء والعظماء الذين هو أحدهم. أما أنا فقد فقدت بفقده أخا وصديقا مهما في حياتي لا أعدل به أحدا، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يتغمده برحمته الواسعة وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأن يحسن عزائنا وعزاء ذريته وذويه فيه، إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين. بقلم: مولاي بن حمين الشنقيطي m.hemmain@gmail.com

...إقرأ المزيد