مقاصد سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد اشتملت سورة النور على أربع وستين آية ترشد في مجملها إلى النظام الأقوم والسلوك الأمثل للفرد والأسرة والمجتمع قصدا لتحقيق العفاف وصونا للكرامة ، وتحقيقا للسلم والعدل ، وحماية للأعراض، واتقاء للمحرّمات، وتوفيرا للسكينة والطمأنينة والاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع ، بعيدا عن النـزغات والهواجس الشيطانية الداعية إلى الظلم والمعصية والرذيلة ،كما أن فيها من الآداب والأخلاق تذكيرا وموعظة ، وتربية للنفوس، وتحقيقا للتقوى ، فحالما يقرؤها المؤمن ويتدبرها يستحضر ويستشعر جلال اللّه وعظمته ، ورقابته وعلمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

إنها سورة غير طويلة لكنها مليئة بالأحكام والمقاصد الشرعية الجمة ، والآداب الاجتماعية النبيلة ، والأخلاق الحضارية الزكية ، التي لا يمكن للشرق ولا للغرب - مهما طوحت علومهم واتسعت فهومهم- أن يقرروا مثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

لقد اشتملت هذه على كثير من الحلال والحرام في الإسلام وما يترتب عليه من الثواب والعقاب فقررت الحدود كحد الزنا، والقذف، وضوابط اللعان ، كما قررت كثيراً من الآداب الإسلامية الأخرى كالعلاقات الاجتماعية العامة والخاصة مثل الاستئذان ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغض البصر ، والحث على الزواج وغيرها:

فـفي الآية الأولى:

مقصد الانتباه والالتزام بتعاليم الدين التي أنزلها الله وفرضها وفصلها ، ثم تطبيقها بعد القناعة بها وبكونها تكفل للناس أحوال معاشهم ومعادهم وبذلك تظل للدين حيويته في النفوس ، ومكانته في القلوب ، وأثره في الوجدان ، وهذا ما تشير إليه الآية الأولى:( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون(1)

الآية:2-3

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين(3)

وفي هاتين الآيتين:

1- تقرير العقوبة على مرتكب الفاحشة من طرف جماعة المسلمين ممثلة في السلطان أو من ينوب عنه عقوبة - حسية ومعنوية – ردعا له وتعنيفا على فعلته الشنيعة في حقه وحق دينه ومجتمعه (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) فسمى الله عقوبة الجلد عذابا واستشهد عليها طائفة من المؤمنين زجرا له عن المعصية وحفاظا على طهارة وكرامة الإنسان وحفظا للأعراض والحقوق ، ومنعا لاختلاط الأنساب، وتحقيقا للعفاف ، (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين (3) كل ذلك للحفاظ على نزاهة ونقاء وصحة المجتمع المسلم والحيلولة دون وقوعه في شَرك الرذيلة والانحطاط الأخلاقي ، وظهور اللقطاء في الشوارع وانتشار الأمراض الجنسية الخطيرة، كالزّهري والسيلان ومرض نقص المناعة (السيدا) ، وغير ذلك.

2- إحاطة العلاقة بين الذكر والأنثى بمجموعة من المبادئ والآداب الأخلاقية التي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة وتستبعد الممارسات الفوضوية لها بالعناية بالأسرة وإقامتها على أسس سليمة باعتبارها الحصن الذي يحتضن جيل المستقبل ويتربى فيه ، فقد جعل الإسلام علاقة الزواج قائمة على الانسجام والتقارب فرغب فيها واعتبرها الطريق الفطري النظيف الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة لا بدوافع غريزية محضة ولكن بالإضافة إلى تلك الدوافع ، يلتقيان من أجل تحقيق هدف سام نبيل هو حفظ النوع الإنساني وابتغاء الذرية الصالحة والجيل النظيف الذي يعمر العالم ويبني الحياة فتزدهر به الحضارة الإنسانية في ظل المبادئ النبيلة والقيم الفاضلة ، ولا يكون ذلك إلا بأبناء المؤمنين والمؤمنات في مجتمع العفة والطهر والكرامة بعيدا عن أبناء مجتمع الرذيلة والانحطاط الأخلاقي، ولذا جاء في الأثر عن حذيفة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط اللّه سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار»[1].

وفي الآية 4-إلـى آية 20

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(20)

وفي هذه الآيات مقاصد عظيمة أهمها :

1- المحافظة على كرامة المجتمع الإسلامي ووضع سياج دون أي خدش يصيب عرض أحد منه وبخاصة من اتصف منه بالعفة والطهر والبعد عما حرم الله ـ كعائشة رضي الله عنها وأضرا بها من المحصنات المؤمنات الغافلات ـ ،(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) فنهى الله تعالى عن الرمي بالفاحشة إلا ببينة ، لما يؤدي إليه من إلصاق التهمة بعفيف أو عفيفة من دون حجة أو برهان، وهذا الاتهام وإن ظن بعض الناس أنه لا يستحق عقابا، فإنه في الواقع أمر خطير (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (15) ربما يؤدي إلى القتل، أو تدمير كيان الأسرة، أو الإساءة الدائمة للسمعة، بسبب الاستفزاز وإثارة الأحقاد، وإيجاد العداوة والبغضاء، واحتدام السخط والغضب، والغالب أن الغضوب بعيد عن دواعي العقل والحكمة والرشد، فيسارع إلى اتخاذ موقف متهور، قد يؤدي إلى نتائج خطيرة في المجتمع الإسلامي بسبب كلمة عابرة أو تهمة كاذبة، لذا طلب القرآن مزيدا من التثبت والإثبات للتهمة بأربعة شهود (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (13) ووضع حدا وعقوبة رادعة لذلك حتى لا يجترئ (الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ) من المنافقين والسفهاء وضعفاء النفوس على التلاعب بالأعراض والشرف حفاظا على تماسك المجتمع في سلوكه وأخلاقه وآدابه .

2- ضرورة التوبة والإنابة إلى الله عز وجل قبل فوات الأوان ثم معاينة الإصلاح وإظهار ذلك تطهيرا لنفسه ـ إن لم يطهره السلطان بالجلد والحد ـ مما اقترف من الإثم والخطيئة في حق مؤمن بريء غافل (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وحتى لا يصير إلى النار فيوبق على وجهه فيها فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)[2]

3- وفي آيات اللعان مقصد آخر فقد شرع الله تعالى حكما للعان خاصة ، ففي هذه الحالة التي يلاحظ فيها الزوج شيئاً على أهله ، وقد يضع يده عليه ، ولكن من الصعب أن يجد بيّنة، وفي تكليفه بإحضار الشهود إحراج له، ويعذر بالغيرة على أهله، ولما كان الغالب أن الرجل لا يرمي زوجته بالزنا إلا صادقا، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه ، لذلك جعله الشارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشهادة ، ويكررها أربع مرات بدل الشهداء الأربع (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ، قصدا للتخفيف عنه لكي لا يلحقه العار بالابن الذي يتيقن أنه ليس في حقيقة الأمر من مائه ولا يجد حلا للتخلص منه وقد يترتب على السكوت عليه كثير من المفاسد ، فكان ذلك مخرجا ومخلصا ظاهرا من هذه القضية الشائكة التي قد يبتلي بها رجل ما من المسلمين ، كما جعل الله تعالى أيضا في المقابل مثل ذلك للمرأة (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (9) فكان ذلك قصدا للتخفيف عنها ودرء للحد ولئلا يتلاعب الأزواج بقذف زوجاتهم وإنكار أولادهم في كل حالة وكل صورة، وكل ذلك رحمة من الله عز وجل وتفضلا على عباده المؤمنين حتى يسود في البيوت الاستقرار والطمأنينة والتثبت ويتماسك المجتمع في سلوكه وتعامله وأخلاقه (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (10)

وفي قصة الإفك ثلاثة مقاصد أساسية:

1- بيان من اللّه تعالى في هذه الآيات العشر لبراءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك من المنافقين ومن تأثر بقولهم وأنه محض كذب مختلق واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي اللّه عنها ، وحسدا من المنافقين لها وللمجتمع الإسلامي على ما يتمتع به من تماسك واستقرار ومحبة ووئام، فيعمل الحاقد الكاره كابن أبي وأمثاله على تقويض أركان هذا المجتمع، والغض من كرامته، والنيل من عرضه وسمعته، ولكن (لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) فإن الذي وقع لم يكن ريبة أبدا ، لمجيئها راكبة على راحلة صفوان بن المعطّل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم معهم يكشف كل سوء وينفي كل شك، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة، بل كان يحدث- لو قدّر- خفية مستورا[3].

2- يحذر اللّه تعالى فيها المؤمنين وينهاهم زاجرا لهم أن يقع منهم ما يشبه هذا أبدا في المستقبل ما داموا أحياء مكلفين، ويعظهم بهذه المواعظ وألا يستصغروا ذلك ويظنوه سهلا، (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) فهو عند اللّه تعالى عظيم الإثم، موجب لشديد العقاب ،فعليهم ألا يعودوا لمثل هذا الفعل، إن كانوا من أهل الإيمان باللّه وشرعه وتعظيم رسوله صلّى اللّه عليه وسلم، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه .

3- بيان من اللَّه تعالى لجملة من الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية للناس كالعمل على حسن الظن بالمسلمين وبخاصة من هم مظنة للصلاح والخير والعفاف (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) (12) وكذلك عدم اللغط فيما ليس لهم به علم والتثبت في أخذ ما يدور على ألسنة الناس من أحاديث (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( كَفَى بالمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ [4]) ، فإن الله جل وعلى يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ويزكيهم ويرشدهم إلى الصواب فإنه تعالى عليم بما يصلح عباده في الدنيا والأخرى، ومطّلع على أحوالهم ،ومقتضى ذلك أن يرد العلم إليه سبحانه ، ثم إن فيها تأديبا تربويا له مقصده العميق، فإن في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنا في أوساط المؤمنين وفي المجتمع مما يجرئ الناس على الإقدام على ذلك، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيه فعلى المسلم أن يخشى الله عز وجل ويعلم أنه يجازي كل امرئ بما كسب، وأنه حكيم في شرعه ، وتدبير شؤون خلقه، وتكليفه لهم بما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة ، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، ثم بينت الآيات مقصدا عظيما آخر وهو أن الله تعالى وحده هو الذي يحيط الإنسان برحمته وفضله ولطفه فلولا تفضله عليهم في الدنيا بأنواع النعم التي من أعظمها الإمهال للتوبة، ورحمته بهم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لحل بهم العقاب على ما خاضوا فيه من حديث الإفك ، بل ولنزلت عليهم صاعقة من السماء بما قذفوا به أم المؤمنين الطاهرة المطهرة في بيت النبوة.

وفـي الآيـة:21إلـى 27

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

وفــي الآيـة:21ـ26

في هذه الآيات مجموعة من المقاصد والحكم أهمها ما يلي:

1- تحذير المؤمنين من أن يسيروا في طرائق الشيطان ومسالكه، ويسمعوا لوساوسه وتأثيراته وما يأمر به، في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن من يتبع وساوس الشيطان ويقتفي آثاره خاب وخسر لأنه- أي الشيطان- لا يأمر إلا بما أفرط قبحه وأنكره الشرع وحرمه وقبّحه العقل ونفّر منه فلا يصح لمؤمن طاعته، وهذا تنفير وتحذير صريح ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ويقابل ذلك طاعة الله عز وجل والسير على صراطه المستقيم الذي هو المقصد العظيم وهو طريق الفوز والفلاح والسعادة الذي تزكوا به النفس وتطهر من رجس الشيطان وتبتعد عن نزغاته ، ولا يكون ذلك إلا من الله وحده وبمشيئته وتوفيقه.

2- وهناك مقصد آخر يتمثل في حث أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، وأصحاب السعة في المال والثراء: ألا يمنعوا الفضل والإحسان أقاربهم المساكين والفقراء والمهاجرين، كمسطح بن أثاثة - ابن خالة أبي بكر الصديق - الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا، وهذا حث على صلة الرحم والبر بالأقارب والإنفاق عليهم وسد خلتهم وجوعتهم ، وتلك الصلة عمل إنساني كريم مبارك ، (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فليعف الأغنياء والأقوياء عن المسيء ، وليصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، فإن من أخطأ مرة لا يشدد عليه في العقاب وإن ذلك سبب لغفران الله لهم، وستر ذنوبهم ، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما يغفر الإنسان ذنب المذنب يغفر الله له، وكما يصفح المرء عن المسيء يصفح الله عنه، والله تام الرحمة، وواسع المغفرة لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم، فلا يعذبهم بزلة حدثت وبدرت منهم ثم تابوا منها، وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصديق رضي الله إلى القول: «بلى والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا» ثم أعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه، وقال: «والله لا أنزعها منه أبدا[5]».

3- لقد سنّ الله جل جلاله في هذه الآيات قانونا عاما يدل دلالة مادية حسية على براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وهو وعيد اللّه تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات بالطرد من الرحمة في الدنيا والآخرة والعاقبة السوآء في القيامة نكالا منه بما اقترفوه في حق المحصنات الغافلات المؤمنات المطهرات (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وأن النساء الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثين من الرجال للخبيثات من النساء، فاللائق بكل واحد أمثاله، فشأن الخبيثات تزوج الخبيثين، وشأن الطيبين تزوج الطيبات. أولئك الطيبون والطيبات كصفوان بن معطّل المتهم البريء ، وعائشة الصديقة التي هي أسمى وأرفع من التهمة، بعيدون مبرؤون عما يقوله أهل الإفك والبهتان، ممن تميزوا بالخبث والدنس والتلوث بالمنكرات، وأولئك المبرؤون من التهم الباطلة لهم مغفرة لذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب، ولهم رزق كريم عند الله في جنات النعيم ،) (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (26) ، إن هذه الآية تضع حدا فارقا بعيد الجانبين، بعد السماء عن الأرض بين حكم عبد الله بن أبي وأشباهه من المنافقين، وبين حكم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفضلاء الصحابة رضوان الله عليهم وأمته ، أي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم طيب، فلم يجعل الله له إلا كل طيّبة، وأولئك خبيثون، فهم أهل النساء الخبيثات.

وفـي الآيـة:27إلـى 31

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31)

أما في آيات الاستئذان فكانت المقاصد جلية وأهمها:

1- بعد بيان حكم قذف المحصنات وقصة أهل الإفك، ناسب تبيين بعض الأحكام ، كآداب الدخول إلى البيوت من الاستئذان والسلام، منعا من الوقوع في التهمة، باقتحام البيوت دون إذن والتسلل إليها، أو حدوث الخلوة التي هي مظنة التهمة أو طريق التهمة التي تذرع بها أهل الإفك للوصول إلى بهتانهم وافترائهم، ومراعاة لأحوال الناس رجالا ونساء والذين لا يريدون لأحد الاطلاع عليها ، ولما كان النظر والاطلاع على العورات طريقا للفاحشة جاء القرآن لتوجيه وتهذيب المجتمع الإسلامي بالآداب والأخلاق الرفيعة ذات المعاني الحضارية السامية، والمقومات الأساسية لبناء المجتمع الفاضل، وإشاعة المودة والمحبة بين الناس، والحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية، والقصد من تشريع هذه الآداب – والله أعلم- صون قاعدة الحرية، والاحتفاظ بالأسرار الشخصية، والترفع عن الرذائل والدناءات وسفساف الأمور، ووضع الحواجز والموانع التي تمس العورات والأعراض، وتتعلق بخصوصيات الإنسان والتي لا يريد لأحد أن يطلع عليها ولذا قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) ومن المعلوم أنه إذا قيل للمستأذن ارجع ولا تدخل فسيرجع ولكن المقصود هنا هو ما بينه تعالى بقوله : (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) أي فارجعوا غير غاضبين وغير معادين لمن يحرج بدخولكم ولم يأذن لكم ، فجاء النهي المطلق عن اقتحام البيوت ودخولها من غير استئذان حفاظا على النظام الاجتماعي وخصوصيات الناس ولذا جاء في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: (اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ[6]) ،(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31) ،-

2- هاتان الآيتان واضحتا الاتصال بما قبلهما، فإن الدخول إلى البيوت مظنة الاطلاع على العورات، لذا أمر المؤمنون والمؤمنات بغض البصر بصورة حكم عام يشمل المستأذن للدخول إلى البيوت وغيره ، فيجب على المستأذن التحلي به عند الاستئذان والدخول منعا من انتهاك الحرمات المنهي عنها، كما يجب على النساء عدم إبداء الزينة لأحد إلا للمحارم، لما في ذلك من الفتنة الداعية إلى الوقوع في الحرام، كالنظر الذي هو أيضا بريد الزنا، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) ، فالجامع بين حكم النظر والحجاب في الآية الأولى والثانية هو سد الذرائع إلى الفساد ، ففي هاتين الآيتين مقصد بين عميق وهو تعليم الناس وتزكيتهم وتهذيب أخلاقهم ، لأن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع سليم نظيف ، وذلك بالحيلولة دون استثارة المشاعر ، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً، ذلك أن الميل الفطري بين الرجل والمرأة مَيْلٌ متأصل في التكوين الحيوي ، لأن الله قد أناط به امتدادَ الحياة على هذه الأرض ، والله سبحانه يرشدنا إلى أرقى الأخلاق وأسماها لنعيش في أمن وسلام وطمأنينة ممتثلين أمره عز وجل لننال الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.

فــي الآيـة:21ـ26

(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (34)

1- في هذه الآيات مقصد بيان أمورا تتعلق بالزواج والعفة وتحرير الأنفس ، فما من نهي عن شيء ضار في الإسلام إلا ويقابله الأمر بممارسة شيء نافع، فقد نهى الله تعالى عما لا يحل، مما يؤدي إلى الفاحشة من إرسال البصر والتلوث بالمنكر، ثم أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج المؤدي للعفة والصون، وبقاء النوع الإنساني، وحفظ الأنساب، ودوام الألفة والمحبة، وبناء الأسرة القويمة، لذا رغب الشرع الحنيف بالزواج والاستعفاف، وحذر من البغاء، وحض على تحرير الأرقاء، وإعتاق العبيد، والتخلص من ظاهرة الرق الشاذة ، وندب إلى مكاتبة ملك اليمين على عوض مقسط، إذا احتاج السيد لذلك ، ورغّب الموسرين في مساعدة المكاتبين على أداء بدل الكتابة للتحرر السريع والتخلص من الرق والاسترقاق ، (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) ، فإن المكاتبة والتيسير على الناس والإنفاق عليهم من مال الله الذي أعطى للعبد مقصد شرعي ندب إليه الدين الحنيف كما قال تعلى :( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[7]) ، فإن المال في الحقيقة مال الله والعبد مستخلف فيه ، كما أن من هذه المقاصد أيضا الإحسان إلى الصالحين مطلقا بأنواع الإحسان سواء كان ذالك بالإنكاح أو المال أو غيرهما ، (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، فلا ينبغي أن يقف الفقر عائقاً عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالاً ونساء فالرزق بيد الله ، وقد تكفل الله بإغنائهم ، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم - : « ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى الله عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ[8]» ، وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله ليتمكنوا من الزواج ، (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ؛ فيهيئ لها حلا كاملا شاملا واضحا وضوح الشمس في رائعة النهار وآيات مفصّلات الأحكام والحدود والشرائع التي يحتاج الناس إليها، وموضحات الحق ومعالمه ودروبه.

وفـي الآية: 35 إلـى 45

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)

1- كما تتضمن هذه الآيات أيضا مقصد الإيمان بالله والاستهداء بهداه ونوره ثم بيان نعمه تعالى على عباده قاطبة، فالله سبحانه وتعالى أنزل القرآن آيات منيرات للنفوس، وهو عز وجل منوّر السموات والأرض بأنواره ، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، فإذا قدّروا نعمة الله، وتدبّروا آيات الله في قرآنه، وعرفوا مدى فضل الله في تنوير الكون سمائه وأرضه، وجب عليهم طبعا وعقلا وأدبا ، شكر المنعم وعبادته وطاعته في كل ما أمر به ونهى عنه، لأن القصد من التنوير: هو هداية أهل السماوات والأرض، تلك الهداية التي بلغت الغاية في الظهور والجلاء، وسبب ذلك أن الله تعالى نور السموات والأرض، فهو منورهما، فبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها، فهو مصدر النور، وخالق النور، وماحي الظلام، ومدبر الكون بنظام دقيق، وهذا هو النور ، (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) وتقريبا لأذهان الناس وتصوراتهم المحدودة، شبّه الله نوره بنور مشكات فيها مصباح في زجاجة ، (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) وكل ذلك منير، فكأن زجاج هذا المصباح في إضاءته وصفائه كوكب عظيم من الكواكب السيارة، (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (60) ومثل ذلك قلب المؤمن، يعمل بالهدى الإلهي قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم، ازداد نورا على نور، وهداية على هداية، لأن الله تعالى هو الذي أبدع الموجودات، وخلق العقل نورا هاديا، فالعاقل يدرك عظمة المخلوقات، ويهتدي إلى خالقها، فإذا اكتملت الهداية بالكتاب الإلهي المنزّل، واستنار الإنسان بإرشادات الرسول المرسل، وضحت الأمور وضوح الشمس ، (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (25) فتبين هنا مقصد إرشاد عباده لهدايته وتوفيقهم لاختيار الصواب، بهذه الأمثلة كلها، وتتضح الرؤية للحق بالنظر والعقل وإعمال الفكر ، وتبيين دلائل الإيمان، ووسائل الهداية الكافية، لترسيخها في الأذهان، عن طريق ضرب الأمثال بصور المحسوسات المألوفة، والله عالم تام العلم بكل الأشياء المعقولة والحسية، الباطنة والظاهرة، يمنح الهداية لأهلها، ويوفق للخير والحق المستعد لتلقيها حتى لا يعبد في الأرض غير الله تعالى وحده لا شريك له ،(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، فالآيات الكريمة تذييل قصد به التقرير للزيادة التي يتطلع إليها هؤلاء الرجال الصالحون ، ووعد منه - عز وجل - بأنه سيرزقهم رزقا يزيد عما يتوقعونه ، وبذلك نرى الآيات قد طوفت بنا مع نور الله - عز وجل - ومثلت له بما من شأنه أن يجعل النفوس يشتد استمساكها بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، ومدحت مدحا عظيما أولئك الرجال الأخيار ، الذين يكثرون من طاعة الله - تعالى - في بيوته التي أمر برفعها ، دون أن تشغلهم عن ذلك مشاغل الدنيا ، وبشرتهم بالعطاء الواسع الذي سيعطيهم الله إياه بفضله وكرمه مع الإشارة إلى أن أول موضع تظهر فيه هداية اللّه ونوره هو المساجد التي يشيد بناءها المؤمنون، ويعمرونها بالصلاة والأذكار وجه النهار وآخره ، والمساجد المخصوصة للّه تعالى بالعبادة تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، فجاء الإعلام برفع بيوت الله صيانة لها عما لم تبن له من أمور الدنيا كالبيع والشراء وجميع الأشغال الدنيوية مما يختلف مع رسالتها في الوجود مع ضرورة أخذ دورها ورسالتها ، وعلى رأس ذالك إعمارها بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن ، فقد أخرج مسلم عن بريدة في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم للرجل الذي نادى على الجمل الأحمر: «لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له[9]»، وقد قال صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد : (( إنَّ هذِهِ المَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيءٍ مِنْ هَذَا البَوْلِ وَلاَ القَذَرِ ، إنَّمَا هي لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى ، وَقِراءةِ القُرْآنِ[10])) ، ومن مقاصد الآيات البيان للمسلمين ألا يغتروا بحال الكفار الظاهرة مهما كان صلاح ظاهرها وتسليتهم عن ذلك بأن لهم العاقبة الحسنى وأن هؤلاء إنما : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) وأنهم سيصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة ، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم فتلك عاقبتهم : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) - وهنا بيان أن مثل أعمال الكفار التي يعملونها في الدنيا على غير هدى مثل سراب يلوح من بعيد وكأنه ماء فينخدع به حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فهذا مثل الذين يقلدون غيرهم ، أو مثلهم مثل ظلمات متراكمة في بحر عميق كثير الماء ، تغمره الأمواج المتلاطمة، ويحجب نور الكواكب السماوية غيم كثيف، فهي ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وفيه إشارة إلى أن الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وهذه الظلمات حجبت عنه رؤية الحق وإدراك ما في الكون من عظات وآيات ترشد إلى الطريق الأقوم ، ولذا قال الحسن البصري رحمه الله : الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل ، والمقصود من هذا المثل بيان أن الكافر تراكمت عليه أنواع الضلالات في الدنيا، فصار قلبه وبصره وسمعه في ظلمة شديدة كثيفة، لم يعد بعدها قادرا على تمييز طرق الصواب ومعرفة نور الحق. لذا قال تعالى:( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) أي أن تلك الظلمات الثلاث ظلمات متراكمة مترادفة، بعضها يعلو البعض الآخر، حتى إنه إذا مدّ الإنسان يده، وهي أقرب شيء إليه، لم يكد يراها، ومن لم يهده اللّه ولم يوفقه إلى الهداية، فهو هالك جاهل خاسر، في ظلمة الباطل لا نور له، ولا هادي له، كقوله تعالى: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [11]) ، وقال :(وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ[12]) ، وهذا مقابل لما قال في مثل المؤمنين (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ)، فجاء هذا الأسلوب القرآني بعقد موازنة أو مقارنة بين المتقابلات، ليتبين الخير وأهله ومصيرهم، والشر وأهله وعاقبتهم، فبعد أن ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين وحالة الإيمان، وتنوير قلوبهم بنور القرآن، ذكر الله الكفرة وأعمالهم في الدنيا والآخرة، فحال أعمالهم في الآخرة غير نافعة ولا مجدية، وحالها في الدنيا أنها في غاية الضلال والغمّة، مثل حالة تناهي الظلمة وحيرة المترددين فيها، وهذه عاقبة وخيمة، لا يرتضيها عاقل لنفسه ،ولذا من مقصد الآيات بيان حال أعمال الكافر وإهدارها: لأنها لا تعتمد على أصل صحيح وهو الإيمان باللّه تعالى وقد قال تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) ، فاللّه لا يقبل عملا إلا من مؤمن معترف باللّه وبصفاته، موحد له توحيدا تاما كاملا لتصح نية عمله ،(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (45)

3- وفي هذه الآيات يورد القرآن الكريم عدة أدلة على وجود الله عز وجل وقدرته وتدبيره لهذا الكون ، منها الخلق والإيجاد وتنوع المخلوقات ، ومنها تدبير الموجودات في السماء والأرض، ومنها إنزال المطر، وتقليب الليل والنهار، ومن مقاصد ذلك كله : إقناع الإنسان وهدايته، وتوصله إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده، ومعرفة عظمته وقدرته. ولولا فضل الله ورحمته بالناس جميعا، لما نبّه القرآن -كلام الله - على هذه الأدلة، واقتصر على تشريع الحلال والحرام، إلا أن القرآن العظيم شمل كل شيء من شؤون العقيدة والعبادة والأخلاق ، وأرشد إلى تنظيم المعاملات والعلاقات الاجتماعية ، هذه إذا بعض أدلة وجود الله ووحدانيته وقدرته، وأولها: وجود المخلوقات وتسبيحها لله وتنيزهه وتقديسه من كل مخلوق في السماوات والأرض، من العقلاء وغيرهم، من الملائكة والإنس والجن والجمادات، والطير باسطات قابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء كيلا تسقط، والجمهور على أن تسبيح الطير والجمادات تسبيح حقيقي، ويراد به التعظيم والتقديس، وذلك بأسلوب يتفق مع طبيعة هذه المخلوقات، وكل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل، والله تام العلم بجميع ذلك، ولا يخفى عليه شيء من أفعالهم، وهو مجازيهم عليها، والله تعالى مالك جميع ما في السماوات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما، بالخلق والإماتة، وإليه وحده مصير الخلائق ومعادهم يوم القيامة ، الدليل الثاني: إنزال المطر، وكيفية تكوين المطر وإنزاله، وأن الله تعالى يسوق السحاب بقدرته، ثم يجمع ما تفرق من أجزائه في وحدة متضامة، ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، حتى يتكون منه سحاب عال في طبقات الجو الباردة برودة شديدة، ثم يسوق الله ذلك السحاب بالرياح اللواقح إلى المكان الذي يريد إنزال المطر فيه، ثم ينزل المطر من خلال السحاب، مطرا وبردا من سحب كثيفة متراكمة تشبه الجبال، فيصيب الله بالمطر من يشاء من عباده رحمة لهم، ويحجبه ويمنعه عمن يشاء، ويؤخر الغيث عمن يريد، إما نقمة وإما رحمة حفاظا على الأزهار والثمار والزروع ، كل ذلك إرشادا من الله تعالى للناس إلى التدبر والتفكر في عظيم خلقه وقدرته ونظامه للكون الهائل المنسجم المتجه إلى الله عز وجل مما يزيد الإيمان واليقين بالله وأنه وحده هو مالك الكون والمتصرف في شؤونه بحكمة بالغة ونسق متناه في الدقة ومن تلك الآيات الباهرات خلق الشيء من ضده، وهو النار من البارد، والدليل الثالث: اختلاف الليل والنهار، ، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) أي أن الله عز وجل يتصرف في الليل والنهار بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وتغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، وتعاقبهما بنظام ثابت دقيق تتنوع فيه المخلوقات ، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن في ذلك لدليلا على عظمة الله الباهرة، وعظة لمن تأمل من ذوي العقول والألباب. والتنبيه على تعاقب الليل والنهار واختلافهما طولا وقصرا وارد في كثير من الآيات، مثل قول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ[13]) ، هذه الأدلة الحسية الواضحة، كثيرا ما يقصد القرآن إليها قصدا للدلالة على وحدانية الله جل وعلى وتفرده بالملك وكونه المستحق وحده للعبادة فيستطيع كل إنسان معرفتها، وإدراك ما فيها من عظمة، ودقة وتناسق في الخلق ، وإرشاد إلى وجود الله، والتعرف على قدرته ، وما أجمل وأبدع ما ختمت به تلك الأدلة من قوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (46) فهي تشمل كل الأدلة والعبر، ومن مقاصدها بيان أن القرآن العظيم اشتمل على أدلة الإيمان والاعتقاد، وأحكام العبادة والتشريع، وأصول الفضائل والآداب والأخلاق. واللّه يهدي بتلك الأدلة من يريد إلى طريق الحق والصواب، والسداد والاستقامة، دون انحراف أو اعوجاج، فماذا بعد بيان الحق إلا الضلال؟!

وفـي الآية: 47 إلـى 52

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (52)

ففي الآيات مقصد التحذير والتنفير من التناقض الصارخ الذي يقع فيه المنافقون دائما فهم مؤمنون في الظاهر كفار في الباطن (يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا)، لكنهم لا يقبلون حكم الله وحكم رسوله واتباع الحق، وتجنب الظلم والباطل ،عكس المؤمنين الصالحين ، فهم يعبدون ربهم عبادة خالصة لا يشوبها شيء من الإشراك والضلال، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون رسول الحق والهداية، والعدل والفضيلة، ويتجنبون كل فساد وإفساد، وتخريب، وإهانة، وإذلال، أو امتهان لكرامة الإنسان. وهذه المقومات هي التي مكّنت للمؤمنين في الأرض، وعزّزت بقاءهم ، ففي الآيات مقصد التحذير من أحوال هؤلاء المتنكرين لطاعة الله ورسوله، فهم في خطر وخسران ومصير سيء ، فإن الرضى بحكم الله ورسوله مع الطاعة والتسليم هو دليل الإيمان الحق ، وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله ، وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيِّئ الأدب منافق محروم ، لم يتأدب بأدب الإسلام ، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان ،كما تبين الآيات أن الإيمان بالمبدأ أو الاعتقاد لا يعرف إلا واجهة واحدة هي واجهة الصراحة في القول، والحزم والجزم بالتوحيد، ومطابقة القول للعمل. وتفضح الآيات حال أولئك المنافقون في صدر الإسلام وفي كل زمان ومكان والذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فهم كفرة جبناء يطعنون في الإسلام من الخلف، ويريدون في الواقع هدمه، والتنصل من أحكامه وقواعده (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ، وهذه صورة مخزية لهم قصد القرآن الكريم فضحهم بها على رؤوس الأشهاد ، (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) تراهم إذا أحسوا بأن الحق في جانبهم قبلوا بحكم النبي صلّى اللّه عليه وسلم لأنه كما أثبت الواقع لا يحكم إلا بالحق ، وإن عرفوا أن الحق مع غيرهم وأرادوا جحوده، طلبوا التحاكم إلى غير هذا النبي من أعدائه الذين يحكمون بأهوائهم ، وليس هناك أدنى جور في حكم اللّه والرسول، وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة وإنما هو المرض والشك الذي تختل به فطرته عن استقامتها ، فلا تتذوق حقيقة الإيمان ، ولا تسير على نهجه القويم ، (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ َ) (48) ، وفي الآية وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن اللّه سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، لأنه يمتنع عن العدل والحق والصواب ، ومن المعلوم أن القضاء يكون بين المسلمين لإحقاق الحق وإقامة العدل وإبطال الباطل الذي هو من أعظم مقاصد الدين الإسلامي .

وفـي الآية: 53 إلـى 56

(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

ومن المقاصد في هذه الآيات أيضا طمأنة المؤمنين أن من أطاع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة ووعده الله بالاستخلاف قي الأرض، فقد وعد اللّه سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض، وتأييدهم بالنصر والإعزاز، وإظهار دينهم على الدين كله، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، وكيف لا وهم يعبدون اللّه آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) ، ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم ، وأنهم لا يعجزونه، ولا يفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم، بل الله قادر عليهم، ومصيرهم إلى النار الحامية، وبئس المصير مصيرهم ، وفيه تنبيه وتقريع للكفرة، فإنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله تعالى خلافا لما يظنون أو يتوهمون ولله در نفر الجن حين قالوا : (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[14])

ومن مقاصد الآيات فضح المنافقين وإبطال ما يظهرون من الإسلام وأنه مجرد زيف وشيء يصطنعونه وأن الله عالم بذلك ومطلع عليه وعلى أحوالهم التي يظنون أنهم يخفونها ، فإن تولوا عن الطاعة، فما على النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلا تبليغ الرسالة، وما عليهم إلا الطاعة له، فإن أطاعوه اهتدوا إلى الحق، فجعل الاهتداء مقرونا بطاعته، ثم أكد أنه ما على الرسول صلّى اللّه عليه وسلم إلا التبليغ الواضح الذي لا شائبة فيه لكل ما كلف به ، فهو لا يحمل أحدا على الإيمان الحق قهرا ، ولا يكره إنسانا على الدين القويم (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) ، وفي الآيات مقصد آخر وهو أن الرحمة والفوز والتمكين والقوة تستمدهم هذه الأمة من الله تعالى بسبب طاعته وامتثال أوامره من صلاة وزكاة وأنها من موجبات الرحمة والفلاح عكس الشرك والكفر فإنه من أسباب الفسق والخسران خاصة إذا كان ذلك الكفر قد سبقه إيمان وهداية.

وفـي الآية: 58 إلـى 61

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

- هذه الآيات في استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وفيها من المقاصد ما يتعلق بنظام الأسرة في الحياة ، كالآيات السابقة في الاستئذان منعا من التهمة وسوء الظن وحفاظا على النسق الاجتماعي ولذلك قال جل وعلى : ( ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) ، فهي تبين أن المقصد الأهم هو حفظ عورات المسلمين وعدم الاطلاع عليها وسد الباب أمام تتبعها ، وقد أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «لا تؤذوا عباد اللّه ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب اللّه عورته حتى يفضحه في بيته» ، وفيها التخفيف عن العجائز من الألبسة الظاهرة رفعا للحرج ، وأنها تريد أن تجمع بين أفراد الأسرة الأصحاء وأصحاب الأعذار في تناول الطعام على مائدة واحدة، وترفع الكلفة والمشقة في الأكل من البيوت الخاصة أو بيوت الأقارب والأصدقاء ، دون إذن صريح ، وأن الحكم في البيت الخاص كبيت القريب والصديق على حدّ سواء، وذكر الأكل من البيوت ليساوي ما بعده في الحكم ويعطفه عليه رفعا للحرج ، فهو أدب اجتماعي من أدب الإسلام الرفيع ،

- كما أن فيها مقصدا تربويا وهو أن المميز غير البالغ يعوّد على الأدب والنظام والانضباط والإعداد لتحمل المسؤولية والتكاليف الشرعية (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وهذا التأديب والتعليم والبيان والتشريع بفضل اللّه تعالى، لذا قال :( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يبين اللّه لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على معانيها ومقاصدها، واللّه عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما لا يصلحهم، حكيم في تدبير أمورهم وتشريع الأصلح الأنسب لهم في الدنيا والآخرة ، ثم إذا بلغ الأطفال منكم سن الاحتلام والتكليف بالأحكام الشرعية، فعليهم أن يتأدبوا فيستأذنوا إذا أرادوا الدخول في كل الأوقات كما يستأذن الكبار، وكما يبيِّن الله آداب الاستئذان يبيِّن الله تعالى لكم آياته بما يصلح وينظم حياتكم الدنيوية والأخروية ، ومن هذا الأدب إلقاء تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، ولو لم يوجد أحد ، (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) وهذه التحية شرعها الله، فهي مباركة تُنْمِي المودة والمحبة، طيبة محبوبة للسامع، وبمثل هذا التبيين يبيِّن الله لكم معالم دينه وآياته؛ لتعقلوها، وتعملوا بها ، وفي الآية إشارة إلى أن الأكل مع أصحاب الأعذار لا يخل بقدر الأصحاء أهل الشأن، وأن التواضع مطلوب، والترفع عن مؤاكلتهم منبوذ ممجوج شرعا ودينا، وفي ذلك توسعة على الناس، وبيان ما تقتضيه أواصر المحبة والصلة والود بين الأفراد والأسر.

وفـي الآية: 62 إلـى 64

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (64)

- وفي هذه الآيات يبين الله جل وعلى جملة من الآداب الرفيعة على رأسها توقير النبي صلى الله عليه واحترام شخصه ومجلسه في الجلوس إليه والاستئذان منه وأن لا يدعى كما يدعى سائر الناس أو ينادي بعضهم بعضا وأن يمتثلوا أمره متى ما أمرهم وبما أمرهم وأن لا يخالفوه فتصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، هذه جملة من الآداب يؤدب الله تعالى المؤمنين ويزكيهم بها لأن بها كمال الإيمان

وسمو الأخلاق لهذا قصد إليها القرآن قصدا.

إن الإسلام منهاج حياة كامل؛ فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها ، وفي كل علاقاتها وارتباطاتها ، وفي كل حركاتها وسكناتها . ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة ، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة؛ وينسق بينها جميعاً ، ويتجه بها إلى الله في النهاية .

وأختم هنا بكلمة قالها سيد قطب رحمه الله عند ختام هذه السورة : قال : (... لقد تضمنت هذه السورة بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت ، إلى جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود ، ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين ، إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين ، وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت؛ إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء؛ إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه ، فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علاقاتها ، والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على السواء[15]) .

والله الهادي إلى سواء السبيل.



[1] رواه البيهقى وأبو نعيم والخرائطى في مساوئ الأخلاق انظر كنز العمال للسيوطي ج 5/ 319

[2] أخرجه البخاري ج4ص20 ومسلم ج1ص92 وغيرهما عن أبي هريرة

[3] انظر تفصيل قصة الإفك في البخاري ج5ص116 ومسلم ج4ص2131وغيرهما

[4] رواه مسلم عن أبي هريرة ج1ص10

[5] انظر تفصيل قصة أبي بكر مع مسطح في البخاري ج5ص116 وغيره

[6] رواه البخاري ج8ص54،ومسلم ج3ص1698

[7] الحديد الآية 7

[8] انظر سنن التِّرْمِذِيُّ ج 4ص 174واللفظ له وَقَالَ : حديث صَحِيحٌ ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَالْحَاكِمُ ، وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

[9] مسند أحمد ج38ص156 ومسلم ج1ص397

[10] أخرجه أحمد ج20ص297 ومسلم ج1ص236

[11] [الأعراف الآية/ 186].

[12] [إبراهيم الآية/ 27]

[13] [آل عمران: الآية 190].

[14] الأحقاف الآية 32

[15] في ظلال القرآن ج4/ 2531 .

1 التعليقات:

جزاكم الله خيرا

إرسال تعليق