الروح والجسد

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم : مولاي ولد حمين

إن الإنسان هو ذلك الكائن الحي الناطق الذي خلقه الله عز وجل من صلصال من حمإ مسنون بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ونفخ فيه نفخة غيبة من أمره ، وكرمه على سائر المخلوقات فخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في أرضه التي يورثها من يشاء ليعمرها ويتمكن فيها وسخر الكون كله في خدمته ، وأعطاه السمع والبصر والفؤاد وأسند إليه مهمة حمل الأمانة العظمى في الأرض بعد أن اعتذرت عنها المخلوقات الكبرى في هذا الكون ..السماوات والأرض والجبال .

لقد اقتضت مشيئة الباري جل وعلى أن يخلق هذا الصنف البشري المغاير للملائكة الذين (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ، إذن في هذه المرة سيسبح الله عز وجل ويقدسه جنس آخر إلى جانبكم أيها الملائكة !! ولله في خلقه شؤون ، سبحانه وله الحكمة البالغة .

وقد استفسرت الملائكة في مبدأ الأمر عن هذا الخلق الجديد الذي تشم من خلقه وطبعه ما يتنافى مع ما جبلت عليه وخلقت له ، لكن الله جل جلاله له العلم التام والحكمة في خلقه (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) ، إذن هذا خلق الله وهذه حكمته التي اقتضت أن يستخلف في الأرض جنسا آخر غير الملائكة ، جنس يعصي ويطيع ، ويخطئ ويصيب ، ويأكل ويشرب ويلبس ، ويجوع ويعطش ويعرى ، ويقبل ويدبر ، هذا هو الإنسان المتكون من عنصرين رئيسين هما : روح وجسد لا غنى لأحدهما عن صاحبه ، ورغم ارتباطهما والتحامهما في الإنسان وتوقف وجود كل منهما على الآخر ، إلا أن لكل منهما علمه وعالمه وميزاته وحاجاته ، فالبدن منشؤه ومبدؤه من الأرض وحركته وحياته على الأرض ومثواه ومصيره في الأرض، قال الله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) ، وعلى هذا فبدن الإنسان تبع لهذا العالم السفلي لا يبرحه بحال من الأحوال ، والروح نفخة غيبية من أمر الله عز وجل لا يمكن إدراك كنهها ولا الوقوف على شيء من حقيقتها حاشا ما جاء عن الله تعالى ورسوله ، وقد قال الله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، فالروح إذن تبع للعالم العلوي منه جاءت وإليه تعود عند انفصالها عن البدن حال ما يأذن الله بانتهاء مدة الإقامة فيه .

ولما كان الإنسان مكونا من هذين العنصرين المختلفي التكوين والعالم والطبع أصبح يعيش صراعا وتجاذبا دائما بين الروح والجسد ، بين الطباع البهيمية والصفات الملائكية ، بين روح تنزع وتحن إلى عالمها العلوي ووطنها الأول ، عالم النور والملائكة والطهر والنقاء ، وجسد يشدها ويجذبها إلى العالم السفلي عالم الشهوات والنزوات والشياطين والأوحال

فيحن ذاك لأرضه بتسفل ويحن ذا لسمائه بتصعد

ولن أتعرض هنا لطبيعة البدن وما يناله ويتسلط عليه من مختلف الآفات من مرض وجوع وفقر واضطراب ... لأن ذلك معلوم مشاهد ، وعلمه وحقيقته عند أهل التخصص من الأطباء والعلماء ، وإنما سأركز على الروح لأنني أرى أنها أدق شيء في الإنسان خفاء وأكثره غموضا .

إن الروح وإن كانت من العالم العلوي وكانت مغايرة للبدن –كما تقدم- إلا أنه يصيبها ما يصيبه ويعتريها ما يعتريه من مرض وجوع وفقر واضطراب ، ولكل من هذه الآفات سبب وعلاج ، فأما مرضها فإنها تمرض بسبب هجوم الأرواح الشريرة عليها كالشياطين والنفوس الأمارة بالسوء التي تحتك بها وتعيش معها ، فكما أن البدن تهاجمه الجراثيم والبكتيريا ... وغيرها فكذلك الروح تهاجمها هذه الآفات هجوما شرسا وتفتك بها فتكا لا تستطيع معه أن ترفع رأسا ولا أن تطرد تعسا ، وعلاج هذه الحالة في أمرين ذكرهما الله جل وعلى في محكم كتابه:

1- علاج مهاجمة الشياطين وذلك في اللجوء إلى الله والتحصن في حصنه الحصين والتعلق به والخضوع له ربا واحد معبودا كافيا ، قال جل جلاله : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ، بلى والله إنه لكاف عبده ، ولكن الإضافة هنا إضافة تشريف وتكريم كما يقول المفسرون ، وفي آية أخرى يقول تعالى:( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان) ، هذا بالإضافة إلى الاستعاذة الدائمة منه قال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وليست الاستعاذة التي أمر الله تعالى بها مجرد كلمة تمر على اللسان أو جملة تقال عند قراءة شيء من القرآن فحسب ، وإنما هي قول وعمل والتجاء يضع المسلم في حصن الله وكنفه ويحميه من شياطين الإنس والجن فلا يخاف بعدها ظلما ولا هضما.

2- علاج مهاجمة الأرواح الشريرة والنفوس الأمارة بالسوء وذلك بالسيطرة على نفس الإنسان نفسه وكبح جماحها حتى لا تختلط وتتأثر بالنفوس والأرواح الشريرة فينتقل الشر والنـزق إليها بالعدوى لأن الأرواح كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم « جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ » ، ومن أهم العلاج وأنفعه في هذه الحالة هو أن تجعل النفس في قفص الاتهام دائما كما فعل يوسف عليه السلام الذي كان يعلم براءته علم يقين ومع ذلك يقول : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، وهذه هي صيدلية القرآن لمن أراد أن يطرق أبوابها ويجربها فستعطيه الدواء الناجع والبلسم الشافي الذي يقضي على أدواء الأرواح والأبدان معا فلا يبقى له أثر ولا بثر .

ولله در البوصيري - رحمه الله تعالى- حين جمع هذا النصح ببراعة وحكمة لم أر مثلها لغيره حيث قال :

وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعْصِهما وإِن هما مَحضاكَ النصحَ فاتِهَّمِ

ولا تُطِعْ منهما خَصْماً ولا حَكَماً فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحَكَمِ

أما جوع الروح فهو خلوها من عبادة ربها وعدم أخذها لنصيبها من الإيمان واليقين والتوكل والاتصال ببارئها فيحصل لها الخواء الروحي والهموم النفسية فتضعف مناعتها وتتسلط عليها الآفات الشيطانية والشريرة بمختلف ألوانها وأجناسها فتجتمع عليها كاجتماع النمل على الحية الميتة ، ولكي تتجنب هذا الخواء الروحي والفراغ القلبي وتقاوم هذه الآفات لابد لها أن تتغذى غذاء صحيا متكاملا متنوعا مما يناسبها ويكسبها المناعة الضرورية ، وقد أحسن الألبيري رحمه الله تعالى حين قال :

فَقُوتُ الروحِ أَرواحُ المعانـي وَلَيسَ بِأَن طَعِمتَ وَأَن شَرِبتـا

فَواظِـبهُ وَخُـذ بِالجِـدِّ فيـهِ فَإِن أَعطـاكَـهُ اللهُ انتَفَعْتـا

فكما أن غذاء البدن متنوع ومتشعب فكذلك غذاء الروح فهي تتغذى على التفكر والتدبر والتعلم ومطالعة صفحات الكون والاتصال بالله جل جلاله ، وكلما ازدادت الروح من هذا الغذاء وكانت أكثر انتقاء لكيفه -لا كمه- ، كانت أكثر قوة وأحسن عملا وأرفع شأنا ، حتى تصل إلى مصافي الرقي والطهر والنقاء ، ولذا كان صالح البشر أفضل من الملائكة وعبادتهم أكمل وانقيادهم أتم ودرجاتهم أعلى، وما ذاك إلا لدفعهم وقهرهم للشهوات والنزعات المركبة فيهم.

وكما أن الروح تجوع وتمرض فهي كذلك تصاب بالفقر والجدب الروحي – إن صح هذا التعبير- فيفقدها ذلك رصيدها من الأخلاق والقيم والمثل ، ذلك الرصيد الذي منه تعطي وتزكي ، وبه تعيش وتجيش ، وفيه تبحر وتستثمر ، وعليه تعول وتراهن ، فإذا فقدته ضعف سهمها في سوق الحياة وتقلص دورها في ساحة العمل وانحطت قيمتها في عالمها العلوي ، ولا بد لمقاومة هذا الجدب الروحي والخراب النفسي من التمسك بحبل النجاة بجد وعزم وأن تتخذ لها سلما شامخا راسخا ومعراجا قويا جامحا يرفعها إلى عالمها العلوي بعيدا عن جواذب الأرض وتشويشها وطغيان المادة وعربدتها قال الله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

أما اضطراب الروح فهو عبارة عن تعرضها لأمواج من الحيرة والتردد والشك ، وهي أوهام وأباطيل تعصف بأرواح كثير من بني آدم فتفقدها الحاسة التي تتبين بها الحق من الباطل والصحيح من الفاسد فتجعل الإنسان غرضا للفتنة والسوداوية واتباع الهوى وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ...) إلى أن يصير : (... أَسْوَد مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ »

تلك هي الروح المضطربة المفتونة المستوحشة التي لا يهدأ لها بال ولا يقر لها قرار بسبب بعدها عن الله تعالى وعدم الأنس به والنفور من كل ما يوصل إليه فهي في اضطراب دائم كأنما يتخبطها الشيطان من المس فلا تعرف طريقها ولا تستنير بنور ربها الذي أودعها الجسد ، وهذه الروح - والحالة هذه – لا شك أنها قد ابتعدت وشطت من عالمها العلوي فوقعت في أوحال الشهوات وعفونة الآثام ، فلابد لها أن تغتسل بماء التوبة وأن تقترب وتدلج إلى ربها الليالي ذوات العدد ، وأن تستنزل السكينة والطمأنينة من ربها الذي ينزل السكينة في قلوب المؤمنين ويمنحهم النور والحق والثبات (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).

0 التعليقات:

إرسال تعليق