بقلم : مولاي بن حمين الشنقيطي بسم الله الرحمن الرحيم رسالة في مقاصد الحج وفوائده - أما بعد فإن الحجيج وفد الرحمن وقوافل الملك الديان ، دعاهم فجاءوا ملبين رجالا وركبانا ، يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ، يحدوهم الأمل والرجاء ، تلهج ألسنتهم بالدعاء والثناء ، يحيون شعائر الإسلام ، ويترسمون خطا سيد الأنام ، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ، ولما كان الحج من أعظم العبادات - زمانا ومكانا - جعل الله فيه من الحكم والمقاصد والفوائد الدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله ، ففي هذه العبادة تأرز القلوب إلى بارئها تائبة طائعة نادمة ، ويقبل الحق ويدبر الباطل ، ويتصاغر الشيطان فلا يبقى في النفوس إلا كبرياء الله تعالى وعظمته ، ولذا كانت مقاصد الحج وفوائده من أهم ما ينبغي للحاج أن يتعرف عليه ويلتمسه ومن أهم ذلك: 1- إبراز توحيد الله جل وعلا والعناية به والإخلاص في ذلك كما أمرهم الله عز وجل : (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِـهِ) ، وكما في التلبية التي هي شعار الحج ، والتي تتضمن إفراد الله تعالى وحده بالعمل (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ، لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَك) ، وفي رواية لأبي هريرة (لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ) ، وكما في حديث : (خَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) ، ومنها التوحيد والإخلاص على جبلي الصفا والمروة : (...لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ) ، ومنها قراءة سورتي الإخلاص والمنابذة في ركعتي الطواف : (قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، كما في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه . 2- كما أنه يحصل بالحج كمال العبودية لله تعالى مع مطلق التسليم والانقياد فإن الحاج يعمل أعمالا لا يفهم معناها ولا يدرك حكمتها لكنه يقوم بها امتثالا لأمر الله عز وجل وعبودية له كالطواف سبعا ورمي الجمار ورميها بسبع واستلام الركن وتقبيل الحجر وأكل بضعة من كل بدنة وغير ذلك مما لا يدرك معناه وحكمته فيأتي به الحاج على وجه الانقياد والتسليم والعبودية لله عز وجل ، وهذه هي الحكمة من وجود البشر فقد قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون) ، وقد جاء في زيادة لعبد الله بن عمر : (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَل) . 3- أن في الحج إقامة لذكر الله جل وعلا فمن تأمل الآيات والأحاديث الواردة في هذه العبادة يجد ذلك جليا قال الله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) ، وقال تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) ، وقال تعالى : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) ، وقال تعالى أيضا : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) ، وقال تعالى أيضا : (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) ، وقال تعالى أيضا : (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، وقال صلى الله عليه وسلم (خَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) ، وكما في الحديث :( إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْىُ الْجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ) ، وكما في الحديث الآخر:( لاَ تَصُومُوا هَذِهِ الأَيَّامَ – يعني أيام التشريق – فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). 4- كما أن في أعمال الحج تربية فذة على تعظيم شعائر الله وحرماته ويتضح ذلك في التربية القرآنية قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ، وقال جل وعلا : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، وفي المقابل زجر وحذر تعالى من لاستخفاف بهذه الشعائر والحرمات قال : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وجاء الهدي النبوي على هذا النسق مثل اغتسال الحاج عند الإحرام وتطيبه والتهيؤ والاغتسال لدخول مكة وسوق الهدي وإشعاره وتقليده قال تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه) ، كما يتضح ذلك في تعظيم زمان النسك ومكانه قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) ، وقال أيضا : (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ : مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ ....) ، كل ذلك احتراما وتعظيما لشعائر الله جل وعلا ، وقد جاء هدي السلف الصالح على هذا النسق والمنوال فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعظمون هذه المناسك تعظيما ، حتى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول : كُنا نَتَحَدَّث أن الإلحاد فيه –يعني الحرم-أن يقول الإنسان : (لا والله ، وبلى والله ، وكَلاّ والله) ، ولذلك كان له فُسطاطان أحدهما في الْحِلّ والآخر في الْحَرَم ، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الْحِلّ صيانة للحرم وتعظيما لمحارم الله . 5- كما أن في الحج ربطا لحاضر هذه الأمة بماضيها ، فالسير إلى الحج والطواف بالبيت والصلاة خلف المقام كلها تذكر بتاريخ الأنبياء والصحابة وسلف الأمة والبيت العتيق ، فالأنبياء قد سلكوا هذه الطرق والفجاج والشعاب فقد مسح الله عز وجل ظهر آدم ببطن نعمان وأخرج ذريته من ظهره كما بوأ لإبراهيم مكان هذا البيت وجعل له مقاما فيه وأسكن به ذريته وأمره ببنائه فرفع هو وولده إسماعيل القواعد منه وأمرهما بتطهيره وأمر جل جلاله إبراهيمَ أن يأذن في الناس بالحج فاستجاب إبراهيم لأمر الله واستجاب الله له ، فكان أبو الأنبياء – عليه السلام – أكثرهم ارتباطا تاريخيا بهذا البيت وكان بنوه الأنبياء من بعده يحجون البيت فقد جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ نَبِي إِلاَّ وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ ) ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به ، وكان النبي إذا أهلك قومه ونجا هو ومن معه أتوا مكة فعبدوا الله بها حتى يموتوا ، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام ) ، وقد أخرج مسلم وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِوَادِي الأَزْرَقِ فَقَالَ « أي وَادٍ هَذَا » ، فَقَالُوا هَذَا وَادِي الأَزْرَقِ. قَالَ « كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ ». ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى. فَقَالَ « أَي ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ». قَالُوا ثَنِيَّةُ هَرْشَى قَالَ « كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّى » ، إذن هؤلاء هم الأنبياء وإمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم القائل : (وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ) ، ودموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه ، أما الصحابة وسلف الأمة فكان ارتباطهم بهذه البقعة ارتباطا روحيا وثيقا فأحبوها وعظموها وسكونها وعليهم أشرقت فيها أنوار الوحي وأكرمهم الله بالرسول صلى الله عليه وسلم ورسالة الإسلام ، ويكفي في ذلك قصة بلال وحنينه رضي الله عنه في الهجرة حيث يقول : أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بَوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ. وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ. 6- ومن حكم ومقاصد الحج أنه يحصل به كثير من المنافع الدينية والدنيوية الأخلاقية والسلوكية قال تعالى :(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، ومن أعظم هذه المنافع وأجلها أن يرجع الحاج كيوم ولدته أمه متجردا من ذنوبه وخطاياه كما تجرد من المحيط والمخيط ، وكذلك العتق من نار جهنم ثم أن يباهي الله به ملائكته ، فهذه المنافع هي التي تترك في الإنسان أثرا أخلاقيا أنيقا، وإحساسا إنسانيا عميقا، يدفعانه إلى الطمأنينة والخشوع والسكينة وتجنب الضجيج والجدال وعلو الصوت ، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يشير بيده اليمنى ويقول : (أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ) ، ومن هذه المنافع أيضا فرصة دعاء المسألة الثابت في أماكنه التي دعا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأل فيها المسلم ربه من خيري الدنيا والآخرة ، أما دعاء الثناء والذكر فالمطلوب الاستمرار والمداومة عليه ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما تركه منذ خروجه من المدينة حتى عاد إليها وهو يقول : (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) ، ومن المنافع التي تتحقق للمسلمين في الحج المنافع الاقتصادية , فيكثر البذل والعطاء من الأغنياء إلى الفقراء , وتنشط الحركة التجارية فيتبادلون السلع والمواد المختلفة فيكون الحج سوقا اقتصادية تعود بالنفع والخير على البلدان الإسلامية ، قال الله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا) ، وكذلك من هذه المنافع أن يتعرف المسلم على أخيه المسلم من مختلف الأقطار والأمصار فيلزم نفسه بمعاملته بالإيثار والعفو والصبر والحسنى ، وكذلك استفادة الحاج النظام والدقة لأنه يؤدي أعمالا محددة في أوقات وأمكنة محددة إلى غير ذلك . 7- إن من مقاصد الحج أيضا التربية على التوازن والاعتدال والوسطية في الأعمال ممثلا في الجد والحركة والنشاط مع رفع الحرج والابتعاد عن الغلو والشطط فلا تفريط ولا إفراط كما في قوله صلى الله عليه وسلم (الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) ، ومن التوازنِ والاعتدالِ : النومُ ليلة عرفة وليلة المزدلفة والفطر يوم عرفة وجمع الصلوات والاقتصاد في النوافل والاستظلال بالظل والركوب والفسحة في الزمان والمكان ، فأما الزمان فلم يجعل الله عز وجل زمن الحج يوما أو ثلاثة أيام أو شهرا حتى يضيق على الإنسان تأدية الشعائر فيه ، بل جعله على مدى ثلاثة أشهرا ممتدة حتى يأخذ الإنسان أهبته وكامل استعداده البدني والمادي والمعنوي قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) ، وأما الفسحة في المكان فتتجلى في كثير من النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم ، « قَدْ وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ » ، وَ« قَدْ وَقَفْتُ هَاهُنَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)، وَ« قَدْ نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ » وأمثالها من النصوص الدالة على رفع الحرج والسعة في المكان والتي تربي الناس على الوسطية في الدين والوزن بالقسط في كل أموره ، (فالدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) مع الجد والاجتهاد والنشاط ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولهذا مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَيْءٍ يَوْمَئِذٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ « افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ ». 8- ومن حكم ومقاصد الحج أنه مؤتمر عام لشعوب المسلمين قاطبة يزيد من وحدتهم وجمع كلمتهم ولم شملهم ورص صفوفهم ويعين على نبذ الفرقة والشقاق وما يؤدي إليه امتثالا لقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ، وقوله تعالى :(وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) ، وقد استفاضت السنة النبوية بالحث على رص الصفوف ولم الشمل قال صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وقال صلى الله عليه وسلم :(عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ) ، وقال أيضا : (يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ) ، إذن فهذا المقصد العظيم يتجسد في هذه العبادة حيث يجتمع فيها أكبر كم من المسلمين في مكان واحد وزمان واحد بشعار واحد يجمعهم هدف واحد واستجابة لنداء واحد من رب واحد – جل جلاله وتقدست أسماؤه - ، وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم وطبقاتهم لا يتفاوتون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى ، ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى) ، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ومعناه معنى الآية. 9- ومن مقاصد الحج وحكمه إظهار قوة المسلمين ومنعتهم فإن هذا الكم وهذا الاجتماع الموحد - زمانا ومكانا- في أعظم حشد وتظاهرة تشهدها الكرة الأرضية سنويا من شأنه أن يظهر قوة المسلمين ولحمتهم كما يغيظ أعداء الأمة ويثير حفيظتهم لأن فيه دليلا واضحا على أن هذه الأمة أمة واحدة مهما حاول الأعداء تفتيتها والتفريق بينها وبرهانا ساطعا على أنها أمة حية حياة روحية تدفعها إلى تجاوز السدود والحدود مهما قسمت وجزئت ، فهذا من أكبر ما يغيظ الأعداء ويحطم آمالهم ويرد كيدهم رأسا على عقب ويقلب مخططاتهم ظهرا لبطن ؛ وهذا أيضا مقصد من مقاصد الدين الإسلامي فقد قال الله تعالى : (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الرمل في الطواف لِأَصْحَابِهِ (أَرُوهُمْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّةً). 10- ومن حكم وفوائد الحج كذلك أنه ينبه الغافل ويعلم الجاهل ويذكر الناسي خاصة بالمصير الحتمي الذي ينتظر هذا الإنسان من موت وبعث وحشر ونشر وأهوال اليوم الآخر ، فإن التجرد والاغتسال والإحرام يذكرون بتجريد الميت وتغسيله وتكفينه والوقوف على صعيد عرفة وجمع يذكر بالموقف والبعث على الساهرة وبين يدي المولى جل جلاله قال تعالى : (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) ، كما أن انصباب الناس في المشاعر يذكر بالبعث والحشر والنشور قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ، فأنت ترى وفود الرحمن ينسلون ويأتون من كل فج عميق (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ) ، هنا -أكثر من أي مكان آخر- تتذكر قول الله جل وعلا : (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) ، فقد جاءوا الجماء الغفير ، رجالا وركبانا ، زرافات ووحدانا ، منيبين تائبين لسان حالهم : ذكرتك والحجيج لهم ضجيج بمكة والقلوب لها وجيب فقلت ونحن في بلد حـرام بـه لله أخلصت القـلوب أتوب إليك يا رحمن مما عملت فقد تظاهرت الذنوب كما يردد: إنها فعلا صورة مصغرة ليوم القيامة فإذا تأمل الإنسان ونظر مد البصر عن يمينه وشماله وأمامه وخلفه يراها متمثلة بوضوح في الحجيج وهم يدوكون في عرصات المشاعر كدوكهم في عرصات القيامة فلا يملك أمام هذا المشهد الرهيب إلا أن يقول آمنت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا . خاتمة : وأخيرا على الحاج أن يحرص على الذكر والاستغفار وعدم الغفلة والإخلاص واغتنام الوقت والانطراح بين يدي الله تعالى وعدم الإكثار من الأحاديث الجانبية كالأحاديث في أمور الدنيا إلا لضرورة ، وعليه أن يحرص على حضور مجالس العلم وتعلم ما ينفعه والسؤال عما ينوبه من الأحكام ، وعليه كذلك أن يحرص على حضور الخطب والصلوات ، خاصة في عرفة بخشوع وخضوع وانكسار بين يدي ربه ، فقد يكتب الله له بذلك رضاه إلى يوم يلقاه ، وقد يسمع الحاج كلمة أو نصيحة تعدل خط حياته وتدفعه إلى الاستقامة على دين الله حتى يلقى الله وهو على تلك الاستقامة فيكون من الذين قال الله فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، فإن الموعظة والنصيحة لها في هذا المكان أثرها الخاص حيث يدبر ويتصاغر الشيطان ، ويتفانى الإنسان في مرضاة الله والشعور بعظمته في هذه الرحلة المباركة التي وهب الإنسان فيها نفسه وماله لله جل وعلا ، وخرج تاركا أهله وماله ودياره لا لشيء سوى مرضاة الله الواحد الأحد واستجابة لندائه وتعرضا لنفحاته وإيمانا بأن ما عنده خير وأبقى . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين كتبه الفقير إلى ربه مولاي ولد حمين الشنقيطي مكة المكرمة 25 ذو القعدة 1430هــ

0 التعليقات:

إرسال تعليق