العدل وحقوق الإنسان في الإسلام


العدل وحقوق الإنسان في الإسلام بين الخصوصية والعالمية الأستاذ الدكتور عبد الكريم غرايبة
لا أدري لماذا تم اختيار هذا العنوان للندوة. وأفهم من العنوان إن الهدف هو الدفاع عن الإسلام وإبراز اهتمامه بحقوق الإنسان والحرية والعدل. فهل الإسلام بحاجة إلى هذا الدفاع ؟ وهل الدفاع عن النظريات كاف لإثبات الموقف أم يتوجب إبراز الممارسات ؟ وبالتالي هل المقصود الإسلام النظري الذي قننه وشرحه الفقهاء حسب المبادئ الشرعية المعروفة أم المقصود ممارسات المسلمين الفعلية وأنظمة الحكم والحكام. هل نناقش حقوق الإنسان في الإسلام أم حقوقه كما مارسها المسلمون ؟ ولماذا لا يكون الموضوع حقوق الإنسان عند المسلمين وندع الإسلام بريئـًا من الممارسات المخطئة.
ولا يجوز أن ننسى أن الحكم، عملياً وواقعياً، هو المسؤول عن رعاية حقوق الإنسان واحترامها أو خرقها. ولقد قام الحكم في الماضي كما في الحاضر وفي جميع بلدان العالم على العسكر أو الجند كما يحلو للمؤرخين أن يسموهم. وأكثر الحكام في التاريخ، في كل العالم، هم قادة عسكر واعتمد من تلاهم على العسكر. ومع أن المبرر لوجود الجند هو ضمان الأمن الداخلي والخارجي الذي كثيرا ما حققوه، إلا أن الناس والحكام معهم عاشوا في جحيم من القلق والخوف وعدم الاستقرار منذ اللحظة التي تسلم فيها الجند مقاليد السياسة. وليس أخطر على الأمن والكيان في أي بلد من جندي سياسي طموح. وأمعن العسكر خلال عصور التاريخ بالخلفاء والأمراء والملوك والحكام خلعاً وسملاً وتعذيباً وقتلاً. ولكن الأهم من كل ذلك أنهم حمّلوا الشعوب ما لا طاقة لها به من نهب وسلب وانتهاك حرمات وتعطيل مصالح. فلم يأمن إنسان، حاكماً كان أو محكومــاً، على حياته وماله وآله وعرضه من تعديات العسكر. وبدلاً من أن يحمـي الجند الحاكم والرعية وحقوق الإنسان أصبحوا الخطر الرئيسي على الحرية والحقوق والأمن والاستقرار وأكثر ما يهـدد الحكام وأنظمـة الحكم.
وقد ابتلينا في زمننا هذا باصطلاحات كثر تداولها وترديدها كان منها حقوق الإنسان. ومن أبرز الاصطلاحات المبهمة هي العلمانية (بفتح العين) والديموقراطية والشرق الأوسط واقتصاديات السوق والانفتاح والتطبيع والتعددية والحريات والعملية السلميّة..الخ. ودافع عنها كثير من الناس مع أن عددًا من المدافعين لا يؤمن بها ولا يدرك مقاصدها ولا يعرف أبعادها وأحياناً لا يفهمها.
ولو آمن الأمريكيون بحقوق الإنسان لما قام للولايات المتحدة الأمريكية كيان أو وجود. ولما وجد أفارقة سود في أمريكا. ولكان أكثر السكان من الهنود الحمر من سلالة الخمسمائة قبيلة هندية التي تمت إبادتها باسم الحضارة والتقدم وحقوق الإنسان والحرية، أي حرية قتل الإنسان لأخيه الإنسان. ولو آمنوا بحقوق الإنسان وضرورة مكافحة الإرهاب البغيض وبحق كل إنسان أن يعيش في بلده ووطنه آمنا لما قام الأمريكان بأكثر من مائتي غزوة إرهابية لجيرانهم في أمريكا اللاتينية خلال قرنين. ولما كان لهم قواعد في كوبا وبنما وهنا وهناك. بل لو أنهم آمنوا بحقوق الإنسان والعدل لما وجدت جمهورية بنما.
ولا يقصد من الإشارة إلى الولايات المتحدة التخصيص أوالتنديد بدولة معينة. مثلها كثير في عالمنا الحديث والوسيط والقديم. ويوجد في أوروبا القرن العشرين وحدها أكثر من عشرين مجموعة بشرية مسيحية تتعرض حقوقها الإنسانية للمسّ أو الحرمان. ومنع بعضها من النشر بلغتها القومية التي تتكلمها في بعض المناطق عشرات الملايين. وعانى أهل أكرانيا وفنلندا وسكان برتاني وويلز والباسك لاضطهاد لغوي عنيف دام قرونا طويلة. وما زالت أقدم السلالات الأوروبية وهم مـن بقي من الكلت أو السلت مضطهـدة لغويـًا وسياسيـًا في فرنسـا والمملكة المتحدة (بريطانيا) وإسبانيا. وقد ألحقت برتاتي بفرنسا بالقوة سنة 1532م ومنع أهلها من استعمال لغتهم في المدارس. وسيرد أسماء الشعوب المسيحية المضطهدة في أوروبا من قبل مسيحيين في آخر البحث. وتاريخ البوسنة نموذج طريف للمقارنة بين مفهوم العدالة وحقوق الإنسان لدى المسلمين العثمانيين والمفهوم الأوروبي.
وقد وردت كلمات العدل والحق والإنسان مفردة في القرآن الكريم عشرات المرات. فقد وردت إشارات للإنسان في اثنين وخمسين آية وسبع وثلاثين سورة تحمل إحداها اسم الناس. وجاء الحق في ثلاثة عشر آية وسبع سور. أما العدل فقد وردت الكلمة في ثمان وعشرين آية وعشر سور. ومع ما يبدو من قلة ورود العدل في الآيات الكريمة إلا أن للحق منزلة رفيعة خاصة. فالحق من أسماء الله عز وجل وقيل من صفاته. والعدل يقترب في معانيه من الحق. ومع أن الأصل في العدل هو الموازنة والتوازن فإنّ من معانيه الميل عن الطريق والتوقف في الأمور الذي يشبه الحرص وهو أحد معاني الحق. ويلاحظ أن كلمة Just الإنجليزية فيها بعض معاني كلمتي حق وعدل.
والإنسان هو محور الحديث. وقد ورد في القرآن الكريم أن الإنسان خلق ضعيفا فكيف حاله إذا ما حرم من حقوقه. وقد وصفه الكتاب الكريم بأنه ظلوم كفور وقتور وأكثر شيء جدلاً. وقال ابن عباس إنما سمي الإنسان إنساناً لأنه عهد إليه فنسي. وجاء وصف للإنسان في الآية 72 من سورة الأحزاب (33) { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا }.
وقد فهم المشارقة الآية على غير ما فهمها المغاربة. إذ فسرها المشارقة بأسلوب حرفي تقليدي. وفسرها الفقيه المغربي الشيخ أبو العباس أحمد بـن جعفــر الخزرجي السبتي العدوي (540/1146 ـ 601/1205) بطريقة أجمل فقال : إن في قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات، يعني شمسها ونجومها والأرض يعني نباتها. فأبرز كل واحد ما أؤتمن عليه، وأبى أن يحمله أي أبى أن يختزنه، فادوا الأمانة ولم يحملوها. وحملها الإنسان وادخرها واكتنزها وبخل بها إنه كان ظلوماً جهولاً، لأنه منع ما ليس له..
والذي يحرم الإنسان من العدل وبعض حقوقه أو كلها هو أيضا إنسان. فالإنسان بطبعه يميـل إلــى اكتناز الخيـرات، أي حملهـا، وحرمـان أخيـه الإنسـان منها. وقد تحدث علماء عن الأمانـة والحمل. وقيل إن من أضمر التكذيب فقد حمل الأمانة ولم يؤدها. ومن خان فيما أوتمن عليه فهو حامل. وذهبوا بعيداً في إطلاق صفة الإيمان والكفر على الأنهار. فقيل نهران مؤمنان هما النيل والفرات لأنهما يفيضان على الأرض ويسقيان الحرث بلا مؤونة. ونهران كافران هما دجلة وبلخ لصعوبة استخدام مياهمها للري بسبب عمق مجراهما وانخفاض مستواه عن مستوى الأرض الزراعية حوله. وقد استخدم الأندلسيون والمغاربة الخطارات لتحويل الأنهر الكافرة إلى أنهر مؤمنة.
وكانت الممارسة، رغم طبيعة أنظمة الحكم، تلتزم بالعدل وحقوق الإنسان. فقد اتجهت الحملات العسكرية الأولى في عهد الخلفاء الراشدين إلى بلاد عربية لتحريرها. كان الهدف تحرير الناس ونشر ا لعدل والمساواة بينهم.
وحرص المسلمون الأوائل على عدم تجاوز جبال طوروس شمالا فور قبول بيزنطة بوضع حدود سلام جغرافية. ولم يقض المسلمون على دولة وطنية في أي بلد احتلوها باستثناء دولة الأكاسرة الساسانيين. وكان العـراق خاضعـًا للحكم الساساني بينما خضعــت بلاد الشـــام وأقطـــار الشمــال الافريقي للحكم البيزنطي. وخرج المسلمون على القاعدة عندما احتلوا إسبانيا/الأندلس ولكنهم لم يواجهوا فيها حكماً وطنياً بل أزالوا عنها كابوس حكم أجنبي غوطي ألماني. وتوغلوا في فرنسا في مناطق كانت تخضع للغوط أيضاً. وكان هدف الحملات نشر الإسلام والدفاع عنه. ولكنهم لم يتبنوا فكرة نشر الدين بالقوة والاضطهاد.
وتردد عمر بن الخطاب طويلاً قبل أن يأذن بغزو فارس ومطاردة الملك الفارسي يزدجرد. وأمر قادته بالعراق بعد معركة القادسية بأن لا يكثروا الحرب. ولكن الساسانيين لم يبدوا ميلا لعقد سلام. وتمنى عمر "لو أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم. حسبنا من الريف السواد". وكتب سعد إلى عمر : أن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة". ولكن عمر لم يكن ميالا لمواصلة الحرب حتي عام 21 للهجرة. ففي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس أينما كانت لما رأى عمر أن يزدجرد "يبعث عليها في كل عام حرباً". وقيل لعمر سيبقى هذا حتى يخرج من مملكته. وأذن للناس في الانسياح في أرض العجم حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان له. وكلمة انسياح لفظة طريفة استخدمها المسلمون لهذه الغاية. وسح الماء يسحه سحّـًا أي صبه صبا متتابعا كثيراً. وقد أوصى أبو بكر أسامة بن زيد حين أنفذ جيشه إلى الشام : أغر عليها غارة سحّاء أي دفعة من غير تلبث.
والأمر الثاني الذي يظهر احترام المسلمين لحقوق الناس هو واقع البلاد العربية في يومنا هذا. فبلاد الشام مثلاً هي موزاييك من المذاهب والأديان واللغات انقرض بعضها خارج بلاد الشام. فلم يفرض المسلمون على السكان ديناً ولا لغة وأباحوا لهم الاحتفاظ بلغاتهم ومذاهبهم على أساس قاعدة لا إكراه في الدين. ويقـول أتـباع هذه المذاهب أن طوائفهم أقدم من المسلمين فـي البلاد. وهـذا الأمر يثبـت التسامح لأن المسلمين لم يفعلوا معهم ما فعله غيرهم في برتاني أو يلز أو أكرانيا ولم يبق في أوروبا أقليات دينية غير مسيحية ســوى اليهود. وما زالت قرى في بــلاد الشام تتكلم لغــة انقرضت من باقي البلاد. وقد يشكـو البعض مــن أنهم عوملوا معاملة مواطنين مــن الدرجة الثانية. وهذا اصطلاح حديــث لم يكن مفهوماً في الماضي. كما أن الجميع، مسلمين وغير مسلمين، عوملوا معاملة محكومين من قبل الحاكمين من الجند والعساكر. أي أن الجميع كانوا سواسية في أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
ويذكر لعمر بن عبد العزيز مواقف جميلة في العدل وحماية حقوق الإنسان. فقـد نصحته عمته فاطمة "أن الله بعث محمدًا رحمة ولم يبعثه عذاباً إلى النـاس كافـة. ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهرًا شربهم فيه سواء". أي أنه ليس لمسلم أن يحجزه فيحرم غيره شيئـًا من ماء ذلك النهر وأن الناس جميعـًا متساوون في الشرب من ماء ذلك النهر. وافتخر عمر "أليس حسناً وجميلاً ألا تطلع الشمس عليّ في يوم إلا أحييت فيه حقا وأمت فيه باطلاً حتي يأتيني الموت. ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف". وهذا ما دعا أهل سمرقند إلى القول عن عمر "وقد أظهر الله به العدل والإنصاف..." وذلك عندما شكوا ظلماً وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم...".
وتشكل أقوال عمر بن الخطاب وأعماله ذخيرة كبيرة حول مفهوم العدل وحقوق الإنسان. فهو لم يعزل خالد بن الوليد "عن سخطة ولكن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.." أي أنه أراد حماية أمن الدولة من شعبية جندي بطل يمكن أن تؤدي إلى انشقاق خطير في جسم الأمــة. وأمـــر قائـــده فــي القادسيـة "امنعهــم من ذكـر الجاهلية ولا تكثر عليهم الحرب". وأوصـى قائــدا آخر "امنعهــم مـن ذكـر الجاهلية وما كان منها فإنه يورث الضغينة ويدعو إلى القطيعة". وهو يضع بذلك ميثاقا للمؤرخين لم يعملوا به أبداً. فالتاريخ يغذي العداوات ويثير الضغائن. وقد يكون السبب الخفي القوي لكل الحروب والمصائب التي تلحق بالإنسان. وقد أوصت لجنة ملكية بريطانية قبل تسع سنوات بمثل ما قال به عمر قبل أربعة عشر قرناً. أي أن التاريخ الذي يتداوله الناس هو أكثر ما يهدد العدل والمساواة وحقوق الإنسان ويتسبب في الحرب والدمار.
ووقف المؤرخون المسلمون من حدثين خطيرين موقفا يدل على التعقل وبعد النظر. ولم يحاولوا استغلال الأخطاء التي حدثت لإثارة الضغائن وبناء الأحقاد. فقد أرخوا لمعركة الجمل بحياد عجيب. فقد جرت المعركة بين أمير المؤمنين من جهة مع أم المؤمنين التي أيدها اثنان من الصحابة المبشرين بالجنة. وأمر أمير المـؤمنين بـعد المعركة بالصلاة على قتلى الفريقين معاً على أنهم جميعا من الشهداء ؛ وأبقوا للأجيال حيرتها عند الحكم على المشاركين بالمعركة.
وثارت حيرة مماثلة في المغرب بعد ذلك بأحد عشر قرناً. فقد ثار محمد العالم على أبيه السلطان المولى إسماعيل، أعلن محمد العالم الثورة في بلاد السوس أوائل 1114هـ/1702م. وفشلت ثورته وقبض عليه في ربيع الأول 1116هـ/1705م بعد ثورة دامية استمرت ثلاث سنوات. وبعث السلطان من قطع يد ابنه ورجله في طريقه إلى مكناسة وذلك حسب أحكام حد الحرابة. ومات محمد العالم بعد وصوله مكناسة في منتصف الشهر عشية الأحد 16 ربيع الأول/1705 ولكن المؤرخين لم يبخلوا على السلطان وابنه الثائر بالألفاظ الكريمة. فقد لقبوا الثائر بالشريف >الفقيه العالم العلامة النزيه ديباجة الدنيا وتاج المكانة العليا الماجد الأمجد الفاضل الأسعد أبو عبد الله مولاي محمد<. أما والده فهو >السلطان المظفر المؤيد شمس الدنيا وبدرها الأزهر تاج الشرف الأنبل أبو الفتوحات مولانا..<.
كان الأمير محمد العالم قد ثار بسبب تكسيب العبيد والتصرف ببناتهم على غير وجه شرعي. وحار عدد من الفقهاء في موضوع العبيد والحرطائيون. والحرطائي هو العتيق أو الحر الثاني. واتهم السلطان بتملك الأحرار وخرق حقوق الإنسان، لأن المسلم الحر لا يجوز استعباده. وتعرض الفقهاء في فاس لأكثر من محنة وصودر البعض وسجن وتعرضوا لإهانات وخُنق أحدهم. ولكنهم رفضوا الموافقة على المبدأ. ورغم المحنة بقي للمولى إسماعيل الكثير من التقدير لأنه حرر طنجة من الإنجليز والعرائش من الإسبان. وعندما مات محمد العالم متأثرًا بجراحه استولى الإنجليز على جبل طارق وما زالت بأيديهم. ولم يكن النبأ مزعجا لأهل المغرب لأنه شكل نكسة للإسبان وهم العدو التقليدي. ولكن جذب اهتمامهم أحداث تونس وخلافاتها وحروبها مع الجزائر وطرابلس واستيلاء إبراهيم الشريف على السلطة.
ويعطي تاريخ البوسنة نموذجا طريفا للمقارنة بين مفهومين لحقوق الإنسان. بين مفهوم الغرب والمفهوم الإسلامي العثماني. فقد برز في البوسنة وبلغاريا مجموعة دينية عرفت باسم (البوجومل) نسبة إلى قسيس برز في منتصف القرن الرابع/العاشر. ونشر هذا القسيس مذهباً يجمع بين المسيحية والثنائية فأعطى الخير المتمثل بالمسيح مركزًا متميزًا على الشيطان. والبوجومل لقب هذا القسيس، كلمة سلاقية تعنى محب الله. ولكن الكنيستين القائمتين الأرثوذكسيــة البزينطية والكاثوليكية الغربية، لم ترضيا عن الدعوة وحاربتاها بقوة وقسوة.
بدأت الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية عملية الاضطهاد. وطاردت القوات البيزنطية بعنف ما عرف بالبوليشيان وأخرجتهم من الأناضول إلى بلغاريا، واتهمتهم بالتآمر مع المسلمين لا سيما أيام المأمون والمعتصم. وتعرضوا للاضطهاد في بلغاريا بعد أن عرفوا باسم البوجومل فاندفعوا نحو ما يعرف الآن بالبوسنة. وهاجر البعض شمالا وغربا إلى ألمانيا وفرنسا وسويسرا والأراضي الواطئة. والتحقوا بعد ذلك بقرون بالحركات البروتستانتية والكالفينية وبحركة الهيوجنوت.
وتعرض البوجومل في البوسنة لمحنة. فقد أصدر البابا أوامره إلى ملك المجر الكاثوليكي بتعقبهم وإبادتهم. وطلب البوجومل حماية السلطان العثماني. فتدخل العثمانيون وحموهم من المجر دون أن يطلبوا مقابل ذلك دخولهم الإسلام. وكان لهذه المعاملة الكريمة الرحيمة أثرها في نفوسهم حملتهم على دخول الإسلام بشكل جماعي. وورد أول ذكر لعاصمتهم سراييفو عــام866 /1362 باسـم سراي أوفاسي. وبرز من بينهم فرهاد صوقللو باشا، الصربي الأصل كما يقال، الذي جعل بانيالوقا مدينة إسلامية فخمة. وهذه المدينة هي التي يتردد اسمها اليوم في النزاع الصربي الداخلي بعد أن حولها التطهير العرقي بل الديني إلى مدينة صربية. ولكن أبرز نموذج للتسامح الديني العثماني ورعاية حقوق الإنسان كان محمد باشا صوقللو الذي تولى الصدارة خمس مرات للسلطانين سليمان القانوني وابنه سليم. واحتل أخو صوقللو وكثير من أقاربه مناصب رفيعة في الكنيسة الأرثوذكسية أوصلت الأخ إلى رتبة توازي البطريرك.. أي أن أحد الأخوين كان رئيسا للإدارة الإسلامية والأصغر رئيسـًا للكنيسة الأرثوذكسية. وهذا نموذج عملي للعدالة وحقوق الإنسان وحرية الاختيار العقائدي. وأصبح صوقللو صدرا وأخوه بطريركا سنة وقوع مذبحة بارتولوميو في باريس أواخر آب أغسطس 1572. وكان من بين أقرب المقربين للسلطان الخليفة أحد اليهود المدعو جوزف ناسي الذي حصل على فرمان من سليم الثاني بإسكان اليهود في قبرص بعد أن كان ذلك محظوراً عليه في عهد سيطرة البندقية على الجزيرة.
وحـدث نقاش جميل فــي مجلس حمودة باشا باي تونس أوائـل الـقرن التاسع عشر. فقد كان حمودة من ملوك الاطلاق لا ملوك القانون ولكنه كان يردد القول : الخطأ مع الجمهور أحب إلي من الإصابة وحدي. وأعجب حمودة باشا بنابليون الأول وتمنى لو يرزق المسلمون حاكما مثله. وردد القول : ليت للمسلمين سلطانا في شجاعة نابليون. ولكن علماء تونس رأوا غير ذلك. وقالوا فليتيقن الناس أنه لا يليق بهم بذل حريتهم إلى أحد كما لا ينبغي الإفراط فيها، وأن استخلاص البلاد من الأيدي الضعيفة لا يكون في إسلامها إسلامـًا مطلقا ليـد قاهرة مقهورة لا تبالــي بشيء، فلربما انقلب العاقل مجنوناً.
وهذا يظهر تمسك علماء المغرب بحقوق الإنسان متحدين بذلك رغبات وسلطات حكام جبارين. ففسر السبتي الآية القرآنية بأنها تحض على عدم اكتناز الخير إلى درجة حرمان الآخرين منه. ورأى محمد العالم وفقهاء فاس أن السلطان الجبار إسماعيل مخطىء في تصرفه في أمر العبودية فكلف هذا الرأي أميراً وفقيها حياتهما. ورأي الشيخ محمد بيرم أن تسليم السلطة لرجل واحد قاهر أمر لا يمكن تبريره مهما بلغت خدمات هذا القاهر للأمة والبلد.
ولا تهدف هذه الدراسة لتبرير الفتوح الإسلامية لأن هدفها كان نشر الدين الحنيف. فكل استيلاء على أرض الغير وكل سعي لإخضاع شعب لسلطة أجنبية أمران مرفوضان لا يمكن تبريرهما بنشر الدين أو نشر الحضارة أو العدالة أو تحسين الأحوال. فالأصل هو أن تكون الشعوب حرة وأن يكون لها حق حماية هذه الحرية والدفاع عنها بكل الوسائل وأن تحكم نفسها بنفسها. وقد كسب الإسلام من إخضاع إيران ضم شعب عريق إلى الأمة الإسلامية فكان في إسلامه قوة للدين الحنيف. وأصبح للأتراك والإيرانيين والعرب ألف سنة من التاريخ المشترك يعتزون به، ويفاخرون معـًا بالحضــارة الإسلامية التي أبرزهـا هذا التاريخ المشتـرك. ويفترض أن يؤدي هذا إلى غرس المحبة في نفوس هذه الأمة الإسلامية بعضها نحو البعض الآخر فلا يتحالف أحد مع الأجنبي ضد أخيه. ووحدة تاريخ الألف سنة بين شعوب مختلفة أمر فريد يتفرد به المسلمون. ولكن هذه الوحدة تبقى مهزوزة إن لم يحسن المسلمون تعليم التاريخ لأولادهم. فالعدالة حق مطلق لكل إنسان. ومفهومها بتضمن المساواة والتوازن والحرية. فلا مكان في الوجود لمستبد عادل لأن العادل لا يمكن أن يستبد كما يستحيل على المستبد أن يعدل.
ـــــــــــــــ
الهوامش
1. أكرانيون اضطهدهم البولونيون ثم الروس وحارب ستالين لغتهم. وعددهم في أكرانيا أربعون مليون وسبعة ملايين يعيشون خارجها. وعندما وصل الأكراني خروتشوف للسلطة خفف عن الأكرانيين.
2. الانديون من أصل سويدي، يعيشون في فنلندا، كانوا قبل قرن يكوّنون 14% من السكان، ولكن النسبة تقلصت إلى أقل من النصف.
3. الأستونيون : الروس جعلوا الألمانية لغة التدريس 1802-1889 ثم حلت محلها الروسية، والآن عادوا إلى لغتهم.
4. الايسلانديون : حكمهم الدانمركيون حتى الاحتلال الألماني سنة 1940 للدنمارك، فجرى استفتاء للتخلص من الاضطهاد الدانمركي.
5. برغندي Burgandy : كان لها وضع خاص في فرنسا، ولكن الثورة الفرنسية دمجتها بباقي فرنسا.
6. برتاني أصبحت جزءا من فرنسا سنة 1532م نتيجة إكراه أميرتها على الزواج من ملك فرنسا. بقي لها امتيازات خاصة ألغتها الثورة الفرنسية ومنعت استعمال اللغة بالمدارس ؛ لم يبق إلا القليل ممن يتكلم اللغة.
7. البروسيون : شعب سلافي انقرضت لغتهم أواخر القرن السابع عشر وضمتهم ألمانيا وفرضت عليه اللغة الألمانية. بعد الحرب العالمية الثانية ضمت روسيا بلادهم ولم تعترف بالأصل السلافي للسكان وطردتهم من بلادهم.
8. روسيا البيضاء : اتبع أكثر سكانها المذهب الأرثوذكسي باستثناء مليوني كاثوليكي، والروس قمعوا البروتستانتيين، وستالين عرضهم للاضطهاد إلى حد الإبادة.
9. تتارالفولجا : يخفون هويتهم خوفا من الاضطهاد.
10. الروثنيون : سكنوا الكاربات، وأحسنت تشيكوسلوفاكيا معاملتهم عندما كانوا جزءاً منها قبل 1938م ولكن بعد ضم المنطقة إلى أكرانيا رفضت الدولة الاعتراف بوجودهم أو بلغتهم. عددهم لا يتجاوز المليون كثيراً.
11. الفنلنديــون : اضطهدهم الروس إلى أن سمحوا لهم بعد 1863م باستعمال لغتهم. الموسيقــار سبيليس (1956-1861) روَّج اللغــة والحضارة الفنلنديـة.
12. الكاريل : أرثوذكس في شمال غرب روسيا واضطهدهم الروس الأرثوذكس.
13. اللاب / سامي : أكثرهم في النرويج وعدد كبير في السويد وبعضهم في فنلندا وروسيا.
14. اللاتفيون : كانوا كاثوليك فأجبرتهم السويد على التحول للبروتستانتية ثم عادوا كاثوليك فاضطهدهم الروس.
15. اللتوانيون : اضطهدتهم الكنيسة الكاثوليكية التي رعت البولونيين فانتشر بينهم المذهب الأرثوذكسي. روسيا منعت النشر بلغتهم 1914-1864، أما يهودها فواصلوا استعمال لغتهم التركية.
16. النورمان : اسكندنافيون ومنهم وليم الفاتح الذي تكلم لغتهم. فرنسا أجبرتهم على التخلي عن لغتهم لصالح اللغة الفرنسية.
17. الصورب : سلاف يسكنون ألمانيا قرب برلين. أعيد اعتبار لغتهم وتم إنشاء كرسي للغة الصوربية في جامعة لا يبزج.

0 التعليقات:

إرسال تعليق